اعتدت أن أنادي مبدعات حواء بلقب "هانم"، هذا هو اللقب الذي أحب أن أطلقه على السيدات الراقيات المؤثرات في حياتنا الثقافية والفنية والحالة الإبداعية بشكل عام، في خلقهن وابداعهن، وقد أخذت هذه العادة المهذبة من لقاءات مطولة مع سيدة الصحافة النسائية أمينة هانم السعيد التي لم يجرؤ أحد على مخاطبتها بغير هذا اللقب، وفي المقابل اكتشفت أنها نطقت به خلال حوارنا المسجل أكثر من 20 مرة ذكرت فيها نساء فضليات في تاريخ الحركة النسائية، وعندما خاطبت به الفنانة التشكيلية المبدعة سعاد مردم بك، نبهتني إلى أن إسم والدها هو "مردم بك" إسم مركب وليس لقبا ..ما علينا.. وقد شرفت بأن حاورتها والإصغاء لأفكارها وأحلامها وكان ذلك على صفحات مجلة "حواء" منذ أكثر من 7 سنوات.
ومناسبة هذه المقدمة هو معرضها المدهش الذي يقام حاليا بقاعة بيكاسو بالزمالك، المعرض يختلف جذريا عن معارضها السابقة وأزعم أنني متابع للفن التشكيلي حتى وإن لم أكتب عنه، وللحق أنني ذهبت إلى معرض سعاد هانم مردم بك في حماس يقل عن جولاتي في معارضها السابقة؛ فقد تصورت أن الذهاب إلى معرض فن تشكيلي في خضم القبح الذي يسيطر على عالمنا من حروب دامية وأيضاً قبح إنساني يكشف عن عورات نفوس وضيعة انقلبت على من حاولوا إنارة عقولهم المظلمة الكئيبة، ومن هنا اشفقت على سعاد مردم بك من انتشار هذا الهاجس لدى مرتادي معرضها مع تقديرنا التام لنظرية الفن للفن.
ولكن من أول طلة على أول لوحة اكتشفت أن نفس الهاجس مسيطر على فكر وفن الفنانة المبدعة المهمومة بأحوال وطنها العربي، وما أجمل الفنان عندما يكون في خاطره الناس وبأوجاع وطنها العربي إن لم يكن الإنسانية بكامل أطيافها، حتى تحول المعرض مع دوراني في أرجائه إلى ورود حقيقية تغلف اللوحات وتأتي في بؤرة اللوحة ـ المسطح ـ ورود منثورة تستهدف زائريها بل وتضمد جراح سكان الكوكب المجنون جميعها.
لم يخف علينا وعلى المتأمل المدرب على قراءة الفن التشكيلي، أن سعاد مردم بك هي نفسها الوردة التي تطوف بين المتحاربين العزل منهم على وجه الخصوص لتضمد جراح من أصابتهم سهام الغل والحقد والعدوانية الطائشة، ونظرة واحدة على عنوان معرضها "وردة المنطقة العازلة" يكشف عن عشرات الدلالات، أهمها أن المعرض ليس رفاهية ولا لعب بالألوان، بل هو دفاع عن المكلومين وتضميد لجراحهم، وأن الورد المتناثر على المسطحات البيضاء هو مواجهة حقيقية ضد البارود والقوة الغاشمة، إن سعاد تستبدل الدماء بالورد وكلاهما بقعة حمراء، وتواجه رائحة البارود العفن بسكب العطر على وجوهها النسائية التي تشبهها، في حين يختلط عليك لون الوردة الحمراء بالدماء المنهمر على خطوط النار، إلا أن الوردة التي تبدو هزيلة في رقتها دائما ما تنثر على رائحة الدماء البريئة حتى تغلفها بحنان بالغ، حنان أنثى رقيقة تبحث عن عالم يسوده العدل والسلام، كذلك جاء تناولها لـ"طائر الحمام" الوديع ليكون في مواجهة شؤم الغراب كالح السواد، أنا معك يا سيدتي من الموقنين بأن الورود دائما تنتصر كما تقول خطوط لوحاتها المستطيلة الباحثة عن رحابة الفضاء، وألوان فرشاتها التي تلامس السطح برفق بالغ ولعل في شكل الوردة التي تشبثت بها في صورة زهرة اللوتس الفرعونية العريقة ما ينبيء بانتصار الفضيلة منذ قديم الزمان، وجاءت أحيانا في صورة وردة تنزف وهو قمة الوجع في لوحاتها.
اظن، بل أجزم؛ أن أنامل سعاد مردم بك هي نفسها الوردة الحنون التي طغت على كل أشكال العنف الغاشم على خطوط النار وكأنها تفض الاشتباك وتهدهد نفوس المكلومين المرهقة.
ألف تحية لفنانة يصعب كثيرا التنبؤ بخطوطها على المسطح الأبيض قبل أن تذهب وتشاهد معرضها في قاعة بيكاسو بالزمالك، بعد أن انتبهت هي أن معرضها السابق كان يحمل مشقة طول الطريق حيث مكان المعرض الذي اختارته، أيقنت الآن أن رواد المعارض الحقيقيين يقطنون العاصمة بتاريخها الضارب في الأعماق خاصة حي الزمالك في احتضان الفن الصادق والراقي على الدوام.
سعاد مردم بك لم تتطور فقط في أساليبها الإبداعية وانما قفزت في وثبة حلقت بها في سماء الفن والإبداع ذو المنحى الإنساني الصادق مع تقبلنا لكافة أنواع الفنون.
---------------------------------
بقلم: طاهـر البهـي